06 - 06 - 2025

وجهة نظري | الغش أسلوب حياة

وجهة نظري | الغش أسلوب حياة

استاء الجميع من مشهد ظهورها.. طالبة الإعدادية ذات الخمسة عشر عاما. تبدو بوقفتها وجسدها الممتلئ وطريقتها السوقية أكبر بكثير من عمرها الحقيقى.. غاضبة كانت، وإن كان تعبيرها عنه يثير من النفور والإشمئزاز ولا يجلب أي قدر من التعاطف .

أما منطقها المشوه فيثير القدر الأكبر من الامتعاض والقرف والفزع على مستقبل بلد تكون وأمثالها نواته ..

لم يكن الخوف فقط من حالة فردية يمكن أن تقتصر على تلك الفتاة، وهى تدافع بوقاحة عما تعتبره حقها في الغش.. محتجة على مراقبين منعوها منه لأن قلوبهم لاتعرف الرحمة.. لم يشفقوا عليها ولم يتعاطفوا مع طلبها استكمال ما بدأته من خطوات في حل إحدى المسائل الرياضية، التي لم يتبق منها سوى خطوة.. تصرخ وهى تصف المراقبين بالقسوة والتعنت وتحتج على مناهج معقدة، كيف لعقولهم الصغيرة استيعابها !!

منطق غريب مستفز قدر ما تثير صاحبته الغاضبة بأسلوبها السوقى استفزازا أكبر ..

صدمتنا في الحقيقة، ليس لمشهد الطالبة وأسلوبها الفج، لكن الأخطر أنها لاتعكس قناعة جيل فقط، ولكن مجتمع بأسره مختل التوازن قيما ومبادئا وأخلاقا ..

مجتمع أصبح الغش فيه أسلوب حياة.. النجاح فيه وتكوين الثروات وتبوؤٍ أعلى المراكز غالبا لمن هم أكثر قدرة على الغش والفهلوة والبلطجة إن لزم الأمر ..

نشمئز من مشهد الطالبة، لكن ماذا لو كانت بطلة المشهد طالبة أخرى أكثر هدوءا ورقيا وتحضرا، تبنت نفس المنطق بأسلوب أكثر لباقة، هل تختلف ردود أفعالنا في هذه الحالة!

قبل التسرع في النفى وإصدار أحكام أخلاقية والابتعاد عن شبهة الطبقية، دعونا نعترف أن مشهد طالبة الإعدادية الفج كشف الغطاء عن حجم ما وصل إليه مجتمعنا من تردى.. ألم نسمع عن لجان البهوات المخصصة لغش أبناء الحظوة والحصول على أعلى المجاميع.. هل نسينا الغش الجماعى بالميكروفونات!! هل تغافلنا عن أوراق طالبات متفوقات تم استبدالها لصالح طالبات بعينها لها ضهر يحميها ويعينها على الغش!!

لم يعد للعلم قيمة .. بعدما فقدت المدارس أهميتها، فلا تربية تقدمها ولا تعليم.. وفقد المعلم دوره فلم يعد قدوة ورسولا للعلم، بل اضطرته الظروف الصعبة للجشع، فتاجر بعلمه وأصبح متاحا فقط لمن يدفع !!

هجر الطلبة المدارس وتحولت ساعاتهم فيها لأوقات فراغ للهو والضحك واللعب وتبادل مشاهد التيك توك ..

تعلم صغارنا أن الغش وسيلة أفضل وأكثر راحة للنجاح. وأن الفهلوة طريق أجدى لكسب المال.. بين جدران مدارسهم كان الدرس الأول وفى خارجها توالت الدروس المضيعة لكل القيم الرفيعة .

رجال أعمال ببدلهم الراقية الأنيقة ووجوههم التي تنطق بالنضرة ورفاهية العيش، تقفز ثرواتهم للمليارات وبين الحين والآخر يتكشف حجم ما ارتكبه البعض من جرائم، غش .. تزوير .. قتل .. تجارة مخدرات .. احتيال. بعضهم يقع فتتم محاسبته وكثيرون أكثر براعة وقدرة على الاختفاء والتهرب وغسيل السمعة والأموال.

وأطباء كثر، منهم للأسف لايقلون عن رجال الأعمال المنحرفين جشعا، لايتورعون عن المتاجرة بآلام مرضاهم وممارسة كل أنواع الغش والكذب لإدخالهم في دائرة من الخوف والمتاهة والوقوع أسرى لفكي الرحى، أجساد واهنة يفتك بها المرض وتكاليف علاج خرافية لايقدر عليها إلا القادرون وإن لم يسلموا هم أيضا من كارثية تلك التكاليف.

إعلاميون يتصدرون الشاشات يحققون مكاسب خرافية، فقط لأنهم يجيدون الغش واللعب على أوتار نفاق السلطة والمتاجرة بأوجاع الشعب تحت قناع الدفاع عن مصلحته وتخفيف آلامه .

وبين هؤلاء وأولئك تأتى تصريحات الساسة تزيد المشهد نفورا، كلمات وردية وأحلام لا نهائية ووعود لاتتوقف برغد عيش وحياة كريمة ميسورة ومستقبل أخضر، لكن مشاريعهم وخططهم وقراراتهم تأتى على اليابس والأخضر.

ألا يعد هذا لونا آخر من الغش .. غش رسمي أنيق يرتدى ثوب الحكمة ويدعى السعي لتحقيق المصلحة ويعد بحلول سحرية لأزمات المواطن الشقيان، فقط عليه التحلى بالصبر لسنوات تزداد دوما كلما اقترب أجل إتمامها!

كلهم غشاشون يرتدون الأقنعة تخفى كذبهم، على عكس طالبة الإعدادية التي بدت أكثر وضوحا وصراحة وفجاجة، فكان مظهرها يفضح مخبرها ..

واقع مر يتجرعه أصحاب المبادئ بقسوة، بعدما أصبح الغش أسلوب حياة .. فمن غشنا هو واحد منا وليس غريبا عنا، كلهم طالبة الإعدادية بأقنعة ووشوش متجملة ومتصنعة ومختلفة.
-----------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | الغش أسلوب حياة